نجاح القاضي الوسط
بقي الادب البوليسي بالنسبة الى عشاقه, ولفترة طويلة مرادفاً لصفة الرجولة. تقليدياً, يخص عالم الالغاز والغموض والعقد البوليسية الرجل بدور البطولة, فهو وحده يستطيع مواجهة عالم الجريمة والعنف, وهو وحده القادر على حل شبكة الألغاز المعقدة والامساك بالقاتل المجرم. هو الاذكى وهو الافضل.
مع ذلك تجرأت اقلام نسائية وكتبت بحبر أسود قاتم قصصاً مثيرة للتشويق لكنها وقّعت كتاباتها باسم رجل لتضمن شرعية الدخول الى عالم الادب البوليسي, وبالتالي لتحصل على قبول دور النشر بتبني قصصها وتسويقها. علماً ان دور النشر رفضت, ولسنوات طويلة, قراءة جدية لمسودة قصة بوليسية تحمل توقيع امرأة, فهي لا تؤمن, اسوة بالقارئ بأقلام نسائية تكتب قصصاً سوداء دامية. وهذا ما حدث تماماً مع ادباء رجال كتبوا القصص العاطفية, فقد اضطروا الى استعارة اسم امرأة لنشر قصصهم. ومنذ سنوات قليلة, وحتى يومنا هذا لم تعد كاتبات القصة البوليسية يخفين هوياتهن. اليوم فردت سيدات القصة السوداء أجنحتهن وخلعن القناع وتربعن على عرش الادب البوليسي باللغة الانكليزية والفرنسية, وحطمن ارقام البيع القياسية في العالم كله.
اليوم, تتسابق دور النشر للحصول على حقوق النشر لنجمات الادب البوليسي في بريطانيا واميركا وفرنسا, واذا كانت مبيعات هذه الكتب تحقق ربحاً وفيراً وتضرب ارقاماً قياسية, فالفضل يعود ايضاً الى المرأة. ان اكثر من 70 في المئة من القصص المباعة تشتريها النساء, وهي تختار غالباً القصة البوليسية والقصة الخيالية المستقبلية. اما في الخمسينات والستينات فلاقت القصة البوليسية المسلسلة رواجاً كبيراً بين قرائـها من الرجال. وفي السبعينات لم تعد القارئة تكتفي بقصص آغاثا كريستي واناقة حبكة الالغاز وفك رموزها ساعة احتساء الشاي, في تلك السنوات راحت القارئة تستمتع بقصص سان ـ انطونيو الشهيرة وتقبل على شرائها, مما لفت نظر كاتبات عديدات الى اهمية القصة البوليسية في سوق البيع, خصوصاً في سوق القارئات.
وكانت بداية الكتابة النسائية, تقريباً, للقصص البوليسية, لكن الكاتبات فضلن استبدال التحري الذكي والوسيم بالمرأة التحرية او الشرطية الجريئة والطبيبة الشرعية التي تضع اليد على اسباب الموت, طبيعية او متعمدة, والصحافية التي تدقق في الحدث لتصل الى الحقيقة.
ونجحت تجربة الادب النسائي البوليسي, واقبلت القارئات على هذه القصص المثيرة المشوقة والتي عرفت كاتباتها كيف يستقطبن الجمهور النسائي اذ اخترن ابطالها من المجتمع واظهرن دور المرأة فيها, وراحت كتب روث راندال واماندا كروس تلاقي نجاحاً جيداً وتمت ترجمتها الى اكثر من لغة.
والقارئة ايضاً هي التي ارغمت كاتبات القصص العاطفية والرومانسية (خصوصاً في اميركا) بتلوينها ببعض الالوان القاتمة والابتعاد عن اللون الزهري الابدي لهذه القصص العاطفية. فظهرت القصة "العاطفية المثيرة والمشوقة" التي تتداخل فيها الرومانسية مع جرائم القتل العاطفية المتميزة بالعنف البسيط.
وفعلاً حققت الكاتبات الاميركيات في هذا المجال, ارتفاعاً حقيقياً في المبيعات بلغ اكثر من خمسة اضعاف (من مليون دولار الى خمسة ملايين في الموسم الادبي الواحد).
هكذا, ومنذ سنوات عدة, انتهت الحياة الساحرة والمميزة لكتّاب الادب البوليسي من الرجال. انتهى زمن التحري العنيف والوسيم مع الاطلالة الانيقة للفتيات المثيرات, القويات والغامضات... وانقلبت المقاييس التقليدية للقصة البوليسية فقد احتلت ساحة الافضلية في دور النشر ومعها قائمة افضل المبيعات سيدات الرواية البوليسية التي تسرد الاحداث بغموض يكتم الانفاس .
الانكليزيات والقتل بأناقة
تبقى الانكليزيات سيدات الجريمة الانيقة والمكتوبة بلغة الالغاز والغموض, وتبقى بريطانيا النبع الاصلي والاصيل للادب البوليسي, خصوصاً النسائي فيه. فمنذ ظهور قصص آغاثا كريستي ومفاجآت ساعة الشاي, تربعت الكاتبات الانكليزيات على عرش القصة البوليسية في العالم المعاصر. واليوم تتجدد هذه الكاتبات (المعاصرات منهن) باستمرار وتكمل مسيرتها في دنيا الجريمة والالغاز لتحقيق افضل المبيعات تاركة خلفها الكثير من الزملاء. اما الاميركيات, فلم يستيقظن على عالم الجريمة الا في الثمانينات لكنهن اختلفن في طريقة حباكة القصة كلياً عن ابنة العم الانكليزية. واضافة لعامل اللغة المشترك, فان سيدات القصة البوليسية أخذن الكثير من علم النفس ليزين به نهايات قصصهن.
بشكل عام, تقتل الانكليزيات في القصص البوليسية, بأناقة وسهولة وبرودة اعصاب وباعجاب كلي بعملية القتل المتقنة, وذلك منذ ان بدأت اولى الانكليزيات آنا كاثرين غرين بكتابة اول قصة بوليسية وبعدها آغاثا كريستي وباتريسيا ماكدونالد وغيرهن... واليوم استبدلت الكاتبات القصر القديم بالشقة الفخمة او المتواضعة, وتبقى عملية العنف خلال القتل انيقة, سلسلة وتتميز ببعض الارستقراطية الانكليزية. وفي الواقع, لا يوجد فرق كبير بين الادب الانكليزي النسائي التقليدي والبوليسي: كل منهما يجد في الحقبة الفيكتورية نبعاً غزيراً لمعالم قصته حيث نجد المرأة سجينة المنزل وتركز كل اهتمامها على محيطها العائلي. اما نظرتها الى الحياة فهي سوداوية, تتأمل واقعها البشع بشيء من السادية, من هنا, ترى تلك المرأة ان افضل طريقة للانتقام من هذا الوضع هي قتل الشخص او الاشخاص الذين ينغصون عيشها وعليها ان تتحملهم طيلة حياتها. القتل بأناقة وتخطيط, اي الجريمة الكاملة التي لا تؤدي الى معرفة القاتل وسجنه.
في الثمانينات بدأت الامـيركيات بكـتابة القصة البولسية ودخلن سوق النشر بسرعة وبقوة. وتأثرت غالبية الكاتبات بالادب الانكليزي. لكن القصة الاميركية تميل كثيراً الى البحث في شتى المجالات, لاعطاء تفاصيل القصة جانباً علمياً, تاريخياً وقانونياً, وفي الوقت نفسه تعتمد على العامل الطبي وعلم الجريمة. وهي تتسم ايضاً بالنعومة, فهي قصص كتبتها نساء من اجل النساء وبطلاتها نساء, وهي موجهة بشكل عام لكسر روتين الحياة اليومية للاميركيات وللمرأة بشكل عام.
اما ظاهرة الرواية البوليسية في فرنسا, فهي حديثة لكنها تلاقي نجاحاً حقيقياً. وتعتمد الفرنسية في الكتابة على عامل الحداثة والواقعية ولا تتعامل فعلاً مع اللغز على الطريقة الانكليزية, فهي تفضّل رواية قصص واقعية تحكي الحياة البسيطة والعادية والمجرم فيها ضحية مجتمعه. وبفضل اقلام النساء, تظهر القصة البوليسية الفرنسية عنف المجتمع وعيوبه وتعطشه للقوة والسلطة, ثم تحدي الانسان البسيط لعالم المحرّمات.
وعلى رغم حداثة هذه الظاهرة فان المرأة الفرنسية كان لها وجود دائم في الاعمال البوليسية. فمع انتهاء الحرب العالمية الاولى, كتبت مئتا كاتبة فرنسية نحو 1750 عملاً ادبياً بوليسياً. لكنها لم تكن بشكل عام جيدة وبعيدة كلياً عن اعمال الانكليزيات خصوصاً آغاثا كريستي في تلك الحقبة من الزمن.
وفي عام 1992 بدأت دور النشر تهتم بأعمال المرأة في الادب البوليسي بعد ان لاحظت اقبال النساء على شراء هذا النوع من القصص. وكان عام 1996 نصراً للقصة النسائية البوليسية في فرنسا, فقد نالت كاتبتان اهم جائزتين للقصة البوليسية: الجائزة الكبرى للادب البوليسي وجائزة ميشال لوبران. هاتان الجائزتان هما عادة من حق الكتّاب الرجال للقصة البوليسية, وللمرة الاولى تفوز بهما اديبتان. واليوم, يوجد عدد من كاتبات القصة البوليسية الجيدة في فرنسا, اللواتي يلاقين نجاحاً كبيراً. وكتب القصة البوليسية الفرنسية تشكل ربحاً جيداً لدور النشر التي تتسابق حالياً على الاقلام النسائية.